مقالات و رأي

غزّة لم تُهزم قطّ عبر التاريخ … \بقلم د . _أحمد_سعودي

مقرئُ القراءاتِ العشرِ الصغرىٰ والكبرىٰ والأربعِ الزائدةِ، والباحثُ في علمِ صوتيّاتِ التجويدِ والقراءاتِ

 

قال العلامةُ الفقيهُ والمؤرّخُ عثمان مصطفى الطبّاع (ت 1370هـ) في كتابه النفيس إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة (1/97-98):

 “لم تقعْ غزّةُ قطُّ في ملكِ بني إسرائيلَ، ومعَ أنّ ملكَهم في زمنِ سليمانَ وحَزَقِيّا قد توسّعَ كثيراً، فإنّه لم يصلْ إلى أكثرِ أبوابِها ولم يدخُلْها. والسببُ في ذلكَ راجعٌ إلى الحمايةِ المصريّةِ التي كانتْ عليها.”

 

وهذه شهادةٌ واضحةٌ من فقيهٍ مؤرّخٍ عاش في أرض غزّة، ووقف على تراثها، تشهدُ بأنّ هذه المدينة لم تقع يومًا تحت سيطرة بني إسرائيل، رغم قوتهم في عهودٍ متفرقة، الأمر الذي يُبرز مكانة غزّة الجغرافية والتحالفية والتاريخية، بوصفها منطقةً منيعة ذات حصانة سياسية وعسكرية.

أصل التسمية وغزّة هاشم

تُعرف غزّة في التراث العربي والإسلامي باسم “غزّة هاشم”، نسبةً إلى هاشم بن عبد مناف، جدّ النبيّ محمد ﷺ، الذي تُوفي ودفن فيها في منطقة “السِّدرة”. وتدل هذه النسبة على البعد الرمزي العميق الذي تحمله المدينة، فهي مزيج من العراقة، والنسب الشريف، والارتباط بالبيت النبوي، مما يضفي على صمودها بعدًا دينيًا وتاريخيًا.

ويذهب بعض اللغويين إلى أن كلمة “غزّة” قد تعود إلى جذورٍ تعني المنعة والشدة، أو ربما إلى (غُزاة) أو (رُماة بالنبال)، وهي دلالات كلها توحي بالقوة والصمود والثبات، وهو ما ينطبق بدقّة على المدينة التي واجهت الغزاة عبر العصور.

غزّة والمحتلون عبر التاريخ

غزّة، المدينة الساحلية الواقعة على مفترق طرقٍ بين مصر والشام، لطالما كانت مطمعًا للغزاة عبر التاريخ، من الآشوريين إلى الفرس، ومن الإغريق إلى الرومان، ومن الصليبيين إلى الاحتلال البريطاني، وأخيرًا الاحتلال الصهيوني. لكنّها دائمًا كانت تستعصي عليهم، وإن دخلها العدوُّ حينًا، فإنه لا يلبث أن يُطرد منها مذلولًا.

وقد شهد التاريخ أنّ العدوّ الصهيوني لم يُحكِم قبضته على غزّة كما أراد، فرغم احتلاله لها زمنًا في النكسة (1967م)، إلا أنّ المقاومة لم تخمد فيها، واستمرت الاشتباكات والملاحم، إلى أن انسحب منها مرغَمًا عام 2005م، تحت وطأة ضربات المقاومة الشرسة.

أهل غزّة: قومٌ لا يُقهرون

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله (ت 728هـ) في القاعدة الجليلة (ص 250-251):

 “لم يُعرف أن اليهود غلبوا العرب قط، بل كانوا مغلوبين معهم. لم يكونوا بمجرّدهم ينتصرون لا على العرب ولا غيرهم، وإنما كانوا يُقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام.”
وقد أيّد المؤرّخ إحسان بن نجيب النمر النابلسي (ت 1405هـ) في كتابه وصف غزّة وأهلها هذا المعنى قائلاً:

 “الغزيّون عقلاء، قضوا على الحزبية بالمرة، وأصبحوا يسيرون في شؤونهم الداخلية مستقلين، لا يتركون سبيلاً للتدخل الخارجي، فلا قيس ولا يمن. احتفظوا بأراضيهم رغم تشردهم أيام الحرب، وتهديم بيوتهم، ورداءة مواسمهم؛ ولكنهم احتفظوا بنفوسهم وأراضيهم، فضمنوا لهم ولأبنائهم مستقبلاً قومياً عظيماً.”

إنّها شهادة من الداخل، بأنّ الغزيين ليسوا فقط مقاتلين، بل أصحاب عقلٍ وتدبير، جمعوا بين الصمود والحكمة، ولم يتخلّوا عن أرضهم ولا عن هويتهم.

تاريخ المدينة وملاحمها

وثّق المؤرّخ عارف العارف (ت 1393هـ) في كتابه تاريخ غزّة الصادر عام 1943م ملامح من صراعات المدينة المتكررة، وتصدّيها للعدوان منذ القدم، مشيرًا إلى أنَّ غزّة كانت دومًا سدًا منيعًا أمام الغزاة، قائلًا:

 “غزّة كانت من أمهات المدن الفلسطينية التي وقفت سدًّا منيعًا في وجههم وأبت الخضوع لحكمهم. فكان عداءٌ وكان خصام.”

وقد أفرد العارف فصلاً عن “التقويم الغزّي”، مشيرًا إلى أن بداية السنة الغزّية كانت في أكتوبر، وهو ما يصادف بدء أحداث طوفان الأقصى في أكتوبر 2023، كأنّ الزمان يعيد تشكيل الذاكرة في وجدان المدينة.

غزّة في وجه العاصفة

اليوم، تقف غزّة مجددًا شامخة في وجه آلة الحرب الصهيونية، التي لم تترك حجارةً ولا شجرةً إلا أصابتها، ومع ذلك ما زالت المدينة تردّ الصاعَ صاعين. ومقاومتها التي خرجت من رحم المعاناة، لم تكن يومًا نبتةً طارئة، بل امتدادًا لقرونٍ من العزة والشموخ.

غزّة لم تكن مجرّد جغرافيا تُقصف، بل هي روحُ أمّةٍ تنبض بالعزّة، وصوتُ مقاومٍ لا يُطأطئ الرأس. فيها تُصاغ الكرامة وتُروى البطولة، ويكتب الشهداء والجرحى يوميًّا فصولًا من ملحمةٍ إنسانيّةٍ قلّ نظيرها.

في الختام

غزّة، رغم الجراح والآلام، تُثبت للعالم أنّها لم تُهزم، ولن تُهزم. فالأرض التي احتضنت هاشمَ، وتحملت أعباء التاريخ، ترفض الذلّ والاستسلام. وأهلُها، القابضون على الجمر، صامدون، رابطون، يصنعون من الألم أملاً، ومن الأنقاض عنفوانًا.

فيا من تسألون عن غزّة، اقرأوا تاريخها، واصغوا لبطولاتها، وتأملوا في ملامح أطفالها الذين وُلدوا تحت القصفِ، لكنّهم حملوا في عيونهم شمسَ الحرية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى