“من الحروف المقطعة إلى نور الهداية” بقلم / د. أحمد سعودي
مقرئ القراءات العشر الصغرى والكبرى والأربع الزائدة والدكتوراه في علوم القرآن الكريم والقراءات

“من الحروف المقطعة إلى نور الهداية: رحلة إيمانية مع مطلع البقرة”
قوله تعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]
فخّم الله سبحانه وتعالى شأن القرآن الكريم في هذا الموضع الجليل، ورفع قدره، وأعلى مكانته، بأربعة أمور عظيمة:
1. اسم الإشارة “ذلك”: وهو اسم إشارة للبعيد، والمقصود بذلك رفعة قدره وسمو مكانته، فهو ليس كأي كتاب، بل هو في علوه ورفعة شأنه لا يُدانيه كتاب.
2. التعريف بـ”الكتاب”: فكأنّه هو الكتاب المعهود في العظمة والكمال، الذي لا يحق لغيره أن يُسمّى كتابًا بهذا الإطلاق، قال الشاطبي: “كأنه هو الكتاب الكامل، وما عداه فكأنما هو ظل له أو دونه.”
3. نفي الريب عنه: أي لا شك فيه بوجه من الوجوه، فهو الحق المبين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه” [رواه أبو داود وصححه الألباني]، فدلّ على أن الوحي محفوظ ومعصوم، لا مجال فيه للشك أو الريبة.
4. أنه هدى للمتقين: فهو النور الذي يهتدي به من صفا قلبه واتقى ربَّه.
وقد أثّرت هذه الأوصاف الجليلة في أول ما يقابل به القارئ كتاب الله، فأعطت رسالة قوية بأن هذا الكتاب الذي ستبني عليه إيمانك وعقيدتك وسلوكك، هو كتاب لا يماثله كتاب، ولا يدانيه منهج.
والمتقون هم الذين عرفوا الله فهابوه، وراقبوه، فأخلصوا له العمل، وصدقوه في القول والفعل، قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفهم:
“هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، فرفضوا منها ما علموا أنه سيزول، وأقبلوا على ما علموا أنه يدوم، فأهلكوا فيها ما لا يبقى، وأحيوا بها ما لا يفنى.”
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة:
في بيان الهداية بالقرآن، فعن عياض بن حمار رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان” [رواه مسلم].
ومن القصص المؤثرة في بيان أثر القرآن،:
ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع صدر سورة “طه”، إذ دخل بيت أخته غضبًا، فلما قرأ:
{طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} هدأت نفسه، ولامست الآيات قلبه، فكان ذلك سبب هدايته، وما ذاك إلا لكونه من أهل التقوى الذين إذا سمعوا آيات الله وجِلَت قلوبهم.
ومن المعاني التربوية والمنهجية العظيمة في هذا الموضع:
أن تثبيت مصدر الاستدلال على الحق هو الخطوة الأولى نحو التمسك به والدعوة إليه، ومن هنا كان لزامًا على العلماء والدعاة والمصلحين أن يُثبّتوا في قلوب الناس عظمة هذا المصدر –القرآن الكريم– وينفوا عنه الشكوك والشبهات، ويُظهروا آثاره في السلوك والإصلاح والتغيير، فما ثبتت القلوب على الحق إلا حين اطمأنت لمرجعيته ومصدره.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وأن يرزقنا تقواه والعمل به آناء الليل وأطراف النهار.