المسجد الأقصى بين محارق العدو ومعركة اليقظة الكبرى بقلم / د. أحمد سعودي
مقرئ القراءات العشر الصغرى والكبرى والأربع الزائدة والدكتوراه في علوم القرآن الكريم والقراءات

منذ سبعةٍ وخمسين عامًا، وتحديدًا في عام 1389هـ (1969م)، امتدت يد الغدر الصهيونية إلى قلب الأمة النابض،
فأضرمت النار في المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى نبي الأمة وخاتم المرسلين ﷺ،
في جريمة هزت الضمير الإسلامي والعالمي.
فانتفض العالم الإسلامي انتفاضة ماجدة، تفجرت معها ينابيع الصحوة الإسلامية المباركة، تلبيةً لنداء القرآن:
﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾ [النساء: 75]
تلك الصحوة التي بعثت الأمل في أمة اعتراها الوهن، واستمرت مشتعلة توقظ النائمين،
وتحيي القلوب الميتة، وتلهب الهمم في طريق العودة إلى الله والجهاد في سبيله.
ثم، قبل خمسة وعشرين عامًا، في عام 1421هـ (2000م)،
جاء اقتحام السفاح “أرييل شارون” للمسجد الأقصى، تحديًا صارخًا لمشاعر مليار ونصف مليار مسلم.
فكان الردّ حاسمًا؛ إذ اشتعلت انتفاضة الأقصى الثانية، فدوت صيحات التكبير والحرية في جنبات فلسطين، وارتقى آلاف الشهداء مصداقًا لقوله تعالى:
﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]
واليوم…
نشهد موجة تدنيس جديدة، لكنها أشد وأبشع وأجرأ.
تحت رعاية الوزير الصهيوني المتطرف “بن غفير”، تقتحم جموع المستوطنين المسجد الأقصى المبارك،
مدججين بالغطرسة، محاطين بحماية حكومية دولية سافرة، في تحدٍّ فجّ لقوله تعالى:
﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8]
وتساندهم قوى غربية أظهرت ولاءها للباطل على حساب القيم والعدالة، وتحت لافتات سياسية تتحدث عن “شرق أوسط جديد”، لا يُبنى إلا على أنقاض الحق وركام المظلومين.
وفي مقابل هذا الإجرام السافر، نجد أمتنا تتلوى بين ألم المأساة وضعف الاستجابة.
تخيم حالة غريبة من العجز والحيرة على الشعوب الإسلامية، حيث تواجه الأمة قمعًا داخليًا، وتهديدًا خارجيًا،
مع تفشي ظواهر الغفلة والترف والتفاهة بين كثير من أبنائها.
وقد صدق فيهم قول النبي ﷺ:
> «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»
قالوا: أو من قلة نحن يومئذ؟
قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»
قيل: وما الوهن يا رسول الله؟
قال: «حب الدنيا وكراهية الموت»
ـ (رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني).
ويزداد الجرح نزفًا بتخبط مواقف كثير من الرموز، وتحييد الأصوات المخلصة، مما يغري العدو بالمضي قدمًا نحو فكرته المسمومة:
هدم المسجد الأقصى وبناء هيكلهم المزعوم فوق أنقاضه، عياذًا بالله.
—
ورغم هذا المشهد القاتم، يبرز السؤال الكبير:
هل ماتت الأمة الإسلامية؟
هل انتهت رحلة النور وانطفأت شعلة الأمل؟
هل سُلِبت الأمة أسباب النهوض والبقاء؟
الجواب:
لا، وألف لا.
إن الأمة التي تمرض لا تموت، والتي تُبتلى لا تُباد، وإنما تخضع لسنن ربانية عظيمة تُمحص بها صفوفها، وتُصقل بها إرادتها، وتستخرج نخوتها الإيمانية من تحت ركام الغفلة.
قال تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]
إن أعظم ساعات الفجر كانت دومًا تعقب أحلك ظلمات الليل.
وإن بشائر النصر تلوح دائمًا بعد اشتداد الكرب واحتدام الابتلاء.
وقد وعدنا رسولنا الكريم ﷺ قائلاً:
> «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»
ـ (متفق عليه).
فمن كان له قلب حي، أو ألقى السمع وهو شهيد، فليبصر هذه السنن بعين البصيرة:
بقدر صدقك مع الله، ترى أنوار الفرج وهي تشق ظلمات اليأس.
وبقدر تمسكك بنور الوحي، ترى خطوات النصر تتقدم وإن خفيت عن أعين الغافلين.
وبقدر سعيك للقيام بالتكليف الشرعي، تجد مددًا إلهيًا يسري في عروق الأمة، يبعثها ويحييها من جديد.
﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]
واعلم أن أول شروط النصر ليس كثرة العدد ولا العُدة، وإنما هو صدق العبودية لله والثبات على الحق مهما طال الطريق واشتد البلاء.
فيا أيها الموجوعون لما يصيب الأمة...
يا أيها الغيورون على حمى الإسلام ومسرى نبي الإسلام ﷺ…
لا تيأسوا، ولا تضعفوا، ولا تهنوا،
فإن الله مع الصابرين المجاهدين، وإن الوعد الإلهي لا يخلف.
﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.