التحرش: جريمة أخلاقية وجناية شرعية تهدد المجتمعات / بقلم د . أحمد سعودي
مقرئ القراءات العشر الصغرى والكبرى والأربع الزائدة والدكتوراه في علوم القرآن الكريم والقراءات

مقدمة
يُعد التحرش الجنسي ظاهرة خطيرة تعاني منها المجتمعات المعاصرة، بغضّ النظر عن مستواها الثقافي أو تقدمها الحضاري. وهو سلوك عدواني يتعدى على حرمة الجسد والكرامة،
ويترك آثارًا نفسية وجسدية واجتماعية عميقة، ويمثّل انتهاكًا صارخًا لما جاءت به الشريعة الإسلامية من مقاصد عظيمة، على رأسها حفظ العرض وصيانة النفس الإنسانية.
وفي الوقت الذي تشهد فيه مجتمعاتنا الإسلامية تزايدًا مؤسفًا في حالات التحرش، تبرز أهمية العودة إلى المنهج الإسلامي في معالجة هذه الجريمة،.
وتفعيل دور الفرد والمجتمع والدولة، إلى جانب العلماء والمصلحين، لمحاربتها بكل الوسائل المشروعة.
أولًا: مفهوم التحرش وأنواعه
التحرش هو كل تصرف أو سلوك غير مرحب به ينطوي على طابع جنسي،
ويمسّ كرامة الضحية أو يسبب لها أذى نفسيًا أو جسديًا أو معنويًا، سواء أكان بالقول، أو الإشارة،
أو الفعل، أو باستخدام وسائل التواصل الحديثة.
أنواعه:
تحرش لفظي: كالكلام البذيء أو الإيحاءات الجنسية أو “المعاكسات”.
تحرش بصري: كالتحديق أو النظرات المتفحصة بطريقة غير لائقة.
تحرش جسدي: كاللمس غير المبرر أو الاحتكاك العمدي.
تحرش إلكتروني: كإرسال صور أو رسائل غير أخلاقية أو تتبع الضحية عبر الإنترنت.
ثانيًا: موقف الإسلام من التحرش
1. الإسلام دين الحياء والتكريم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إنَّ لكلِّ دينٍ خُلُقًا، وخُلُقُ الإسلامِ الحياءُ” [رواه ابن ماجه].
والحياء هو الضمانة الأولى لاحترام حدود الآخرين، والتحرش يناقضه كليًا.
2. تحريم إيذاء الناس
قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].
فالتحرش إيذاء صريحٌ يُحاسب عليه شرعًا.
3. غض البصر وصون الفرج
قال تعالى:
{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ…} [النور: 30]
ثم قال:
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ…} [النور: 31].
4. النهي عن الخلوة واللمس غير المشروع
قال صلى الله عليه وسلم:
“لا يخلونّ رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما” [رواه الترمذي].
وقال:
“لأن يُطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له” [الطبراني، صححه الألباني].
—
ثالثًا: الآثار الخطيرة للتحرش
1. على الضحية:
أذى نفسي شديد يصل للاكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة.
العزلة والانغلاق عن المجتمع.
الخوف الدائم وفقدان الثقة بالناس.
2. على المجتمع:
تقويض منظومة الأخلاق والقيم.
انتشار الخوف والريبة داخل المؤسسات.
تدمير علاقات العمل والتعليم.
3. على المتحرش:
الوقوع في الحرام والمعصية.
انعدام الثقة الاجتماعية.
الملاحقة القانونية والشرعية.
رابعًا: دور الأسرة والمجتمع في الوقاية
التربية السليمة: ترسيخ مفهوم الحياء منذ الصغر.
الرقابة الأسرية: متابعة الأبناء وتوعيتهم.
القدوة الحسنة: من الآباء والأمهات والمعلمين.
ثقافة الإبلاغ: تشجيع الضحايا على الحديث وعدم السكوت.
خامسًا: دور الدولة في محاربة التحرش
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”.
1. التشريع والعقوبات
تجريم جميع صور التحرش صراحة.
وضع عقوبات رادعة متدرجة حسب الجُرم.
2. الآليات التنفيذية
تخصيص وحدات شرطية مختصة.
تسهيل إجراءات البلاغ وعدم التساهل مع المعتدي.
دعم الضحايا قانونيًا ونفسيًا.
3. التوعية والإعلام
حملات توعوية مستمرة في وسائل الإعلام.
إنتاج محتوى هادف يجرّم التحرش ويُشجع الأخلاق.
4. التعاون المجتمعي
دعم مبادرات المجتمع المدني.
إشراك المؤسسات التعليمية والدينية.
سادسًا: دور العلماء والمشايخ والمساجد في التوجيه
العلماء والمشايخ هم صمّام أمان للمجتمع، والمسجد هو المنارة التربوية والدعوية الأولى.
1. منابر التوجيه
تخصيص خطب ودروس لتوضيح خطر التحرش شرعًا وأخلاقيًا.
التحذير من عقوبته في الدنيا والآخرة.
2. نشر ثقافة الحياء
بيان أهمية الحياء وغض البصر واحترام المرأة.
إحياء القيم الإسلامية في نفوس الشباب.
3. دورات توعوية
تنظيم لقاءات داخل المساجد للشباب والفتيات.
استضافة مختصين نفسيين واجتماعيين مع العلماء.
4. نصرة الضحايا
دعم الضحية نفسيًا ودينيًا بدل لومها.
إرشادها لطلب الحقوق شرعًا وقانونًا.
5. التصدي للمفاهيم الخاطئة
رفض التبريرات السطحية مثل اللباس أو الشكل.
الدعوة للفهم الصحيح للحرية والكرامة الإنسانية.
خاتمة
إن جريمة التحرش ليست مسألة سلوكية عابرة، بل جناية تهدد أمن المجتمع وتخالف روح الشريعة.
ويقع على عاتق الجميع مسؤولية مقاومتها: الدولة بقوانينها، العلماء بمنابرهم، الأسرة بتربيتها، والمجتمع بأخلاقه.
والفرد المسلم مسؤول عن نفسه: فليغض بصره، وليحترم أعراض الآخرين، وليعلم أن الله مطّلع عليه، قال
تعالى:
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].