دائرة الرضا بالله : عبادة قلبية شاملة تتجاوز الرضا بالقدر / بقلم د. احمد سعودى
أستاذ علوم القرآن والقراءات

دائرة الرضا بالله: عبادة قلبية شاملة تتجاوز الرضا بالقدر
مقدمة:
حينما يُذكر “الرضا بالله”، يتبادر إلى أذهان كثير من الناس معنى واحد فقط، وهو الرضا بالقضاء والقدر، بل كثيرًا ما يُختزل هذا المفهوم العظيم في هذا الجانب وحده، ويُذكر مقرونًا بالصبر في حالات البلاء والمحن، فيُقال: ارضَ بما كتب الله لك، أو اصبر واحتسب، فالله قدّر ذلك لحكمة.
لكن الحقيقة أن عبادة الرضا بالله أوسع وأعظم من أن تُحصر في دائرة البلاء والمصائب فقط، بل هي عبادة قلبية عظيمة، تتسع لتشمل كل أركان التوحيد ومقامات الإيمان.
أولًا: المعنى الحقيقي للرضا بالله
الرضا بالله هو طمأنينة القلب واطمئنانه التام بالله، ومحبة ما يقدّره، وحسن الظن به، وقبول أمره، والانشراح لحكمه، سواء في أمر الدين أو الدنيا.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
“الرضا باب الله الأعظم، ومستراح العابدين، وجنة الدنيا، ومن لم يدخله لم يشم رائحة الجنة.”
ثانيًا: آيات تبين شمولية الرضا بالله
قال الله تعالى:
{رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة: 100]
{ذلك لمن خشي ربه} [البينة: 8]
{قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم… رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المائدة: 119]
فهذه الآيات تُبيّن أن الرضا بالله صفة المؤمنين الصادقين، وثمرة خشيتهم لله، وسببٌ في نيل رضاه سبحانه.
ثالثًا: مجالات الرضا بالله (دائرته الواسعة)
1. الرضا بالله ربًّا وخالقًا:
أن تؤمن بأنه لا خالق سواه، ولا رب غيره، وتطمئن إلى تدبيره.
قال تعالى:
{ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف: 54]
2. الرضا بالله مدبّرًا ومصرّفًا:
تسليمك له في أرزاقك، وأقدارك، وحياتك، وثقتك أنه لا يُدبّر لك إلا خيرًا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير…” [رواه مسلم]
3. الرضا بالله معبودًا ومحبوبًا:
أن يكون أحب إليك من نفسك وأهلك وولدك، فلا ترضى غيره، ولا تتوجه بقلبك لغيره.
قال تعالى:
{ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًّا لله} [البقرة: 165]
4. الرضا بالله حَكَمًا وقاضيًا:
أن ترضى بحكمه في نفسك وغيرك، وتعتقد أن شريعته أعدل وأرحم، وترفض كل ما يخالفه.
{أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون} [المائدة: 50]
5. الرضا بالله مشرّعًا ومحدّدًا:
أن ترضى بالحلال والحرام كما شرعه الله، دون تحايل أو اعتراض أو تغيير.
6. الرضا بالله مجازيًا ومثيبًا:
تطمئن أنه لن يُضيع سعيك، وأن كل خير أو شر تُجزى به عدلًا.
{فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} [الزلزلة: 7–8]
رابعًا: قصة مؤثرة في الرضا بالله
روي أن امرأةً صالحة فقدت ابنها الوحيد، فجاء الناس يعزّونها، فابتسمت وقالت:
“إني أرضى بالله ربًّا، أعطاني فأحسنتُ الشكر، وأخذ مني فأحسنتُ الظن به، وما ربي إلا رحيم حكيم.”
فبكى الحاضرون من قوة إيمانها، وقال أحدهم:
“هكذا يكون الرضا الحقيقي، لا يظهر وقت الرخاء فقط، بل يشرق في قلب العبد وقت البلاء.”
خامسًا: خطورة اختزال العبادة في جزء منها فقط
إن اختزال الرضا في “الرضا بالقدر” فقط يُفرّغ هذه العبادة من معناها الحقيقي، ويمنع القلب من أن يستشعر حلاوة التسليم لله في جميع أمور الحياة، وليس فقط عند المصائب.
وهذا الخطأ يتكرر في عبادات كثيرة كالصبر، والخوف، والرجاء، والتوكل… حيث تُربط بمواقف محددة، بينما هي عبادة مستمرة تشمل حال المسلم كله.
سادسًا: الدعوة إلى تصحيح المفهوم في خطاب الدعاة
على الدعاة والمصلحين أن يصحّحوا هذا الفهم، ويُبيّنوا أن الرضا بالله ليس مجرد موقف لحظي عند البلاء، بل هو حالة دائمة من القبول والمحبة والتسليم والطمأنينة بالله في كل أمور الحياة.
خاتمة:
الرضا بالله عبادة لا يُمكن أن تُختزل، بل هي مقام إيماني عالٍ، إذا بلغه العبد فتح له الله أبواب السكينة، واليقين، والثبات، في الدنيا والآخرة.
فلنحرص على تعميق هذا المفهوم في أنفسنا وفي من حولنا، حتى نكون من الذين قال الله عنهم:
{رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} [المائدة: 119].