مقالات و رأي

حين يَصيرُ السكوتُ عن الجوعِ عارًا لا يُغتَفر! بقلم: الدكتور أحمد سعودي

مقرئ القراءات العشر، ومدير دار بركة النور لرعاية المسنين

حين يَصيرُ السكوتُ عن الجوعِ عارًا لا يُغتَفر!

> “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ”
(المائدة: 2)

لم يَعُدِ السكوتُ خذلانًا، إنما هو عارٌ، وعارٌ لا يُغتفر!

المشهد الأول: نخوةُ المشركين قبل الإسلام

حين وقَّعت قريش وثيقةَ المقاطعة الظالمة لبني هاشم، وعلَّقتها داخل الكعبة لتضفي عليها قداسةً زائفة، هبَّ رجالٌ من قريش ما زال في قلوبهم بقية من النخوة،

رغم شركهم بالله. جاء هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أُميَّة، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، لتمزيق الوثيقة الجائرة.

تجلَّت الشهامة في كلمات زهير بن أبي أُمية، يوم خاطب قريشًا عند الكعبة، قائلاً في حضور أبي جهل:

> “يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يُباع ولا يُبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تُشقَّ هذه الصحيفة الظالمة!”
(سيرة ابن هشام)

هؤلاء لم يكونوا مؤمنين، ولكنهم لم يُفرّطوا في نخوة العرب، فكيف بنا وقد حملنا راية الإسلام، ثم ننظر إلى أهل غزة يموتون جوعًا وظمأً أمامنا، ثم نمضي في يومنا وكأن شيئًا لم يكن؟!

المشهد الثاني: الجارُ في شريعة الإسلام

قال رسول الله ﷺ:

> “ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلم!”
رواه الطبراني في الكبير (8/207)، وصححه الذهبي في التلخيص، والألباني في صحيح الأدب المفرد رقم (112).

هذا نفي لكمال الإيمان، لمن يعلم بجوع جاره ويسكت!
فماذا نقول اليوم عن أمّة كاملة ترى أطفال غزة يتضوّرون جوعًا، والنساء يصرخن من الظمأ، ثم نتابع حياتنا العادية، ونتساءل: هل نقاطع؟ هل نُتبرع؟ هل نُدين؟!

المشهد الثالث: عدالةُ الخلافة الراشدة

روى الإمام البيهقي في “السنن الكبرى” (6/160) عن الحسن البصري رحمه الله أن رجلاً أتى أهل ماءٍ فاستسقاهم، فلم يُسقوه حتى مات،

> فأغرمهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ديته!

وبهذا أفتى الفقهاء: أنَّ أهل الحي يَغرمون دية من مات جوعًا بينهم، إن لم يطعموه وهم قادرون.

فبالله عليكم…
كم ديّة في أعناقنا جميعًا؟!

الحقيقة الموجعة:

غزة اليوم لا تُقاتل وحدها فقط، بل تجوع وحدها.
ولم نعد نخذلهم فقط بعدم حمل السلاح،
بل صِرنا نخون إنسانيتنا بسُكوتنا عن جوعهم!

الخذلان أن لا تشارك في المعركة،
لكن العار أن ترى أخاك يموت جوعًا… فلا تُطعمه!

> “كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكم مسؤول عن رعيته!”
(متفق عليه)

أيّ راعٍ هذا الذي ينام شبعانًا، وأمامه عشرات الأطفال يموتون؟
أيّ مسلمٍ هذا الذي يعلم، ثم يسكت؟

أرقام تحكم على القلوب:

بحسب تقارير الأمم المتحدة (2024)، أكثر من مليون ونصف إنسان في غزة مهددون بالمجاعة الحادة.

الأطفال يموتون بلا طعام ولا دواء، وبعضهم يُدفن بيد أمّه بعد أن جفَّ حليبها!

ليسوا على الحدود، ليسوا في عمق أفريقيا، إنهم في قلب الأمة!

لا نريد أن نجلد أنفسنا… ولكن:

أنا لا أحب جلدَ الذات، ولا جلدَ الناس،
لكني لستُ مُهرّجًا لأُضحككم في زمن المآتم!
ولا أُحب أن أقفز فوق الجراح، ولا أن أزين الواقع المرير!
أكره التهوين، وأخشى التهويل، لكني أصدق ما أراه: عارٌ صامتٌ يلتهمنا!

المقارنة الفاضحة:

لم نبلغ نخوةَ المشركين قبل الإسلام، الذين مزقوا صحيفة الظلم!

ولا امتثلنا لأمر رسول الله ﷺ في الجار!

ولا طبقنا عدالة عمر بن الخطاب الذي أغرم أهل الحي دية الجائع بينهم!

بل:شربنا دماء إخواننا في علب الببسي،

ولوكنا لحومهم في وجبات الكنتاكي،

وتردّدنا في نصرتهم لأن “الترند” لم يبلغنا بعد!

● الختام: هذا الدَّين في رقابنا جميعًا!

كُلُّ طفلٍ مات في غزة جوعًا، دِيَّته عليَّ وعليك،
كُلُّ أمٍّ صرخت من ألم الجوع، فأغلقنا الصوت،
كُلُّ عجوز مات عطشًا، ونحن ننظر إليه، ثم انصرفنا!

اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا،
اللهم عاملنا برحمتك لا بعدلك،
فإنك إن عاملتنا بعدلك، هلكنا!

✒️ كتبه: الشيخ الدكتور أحمد سعودي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى