حين ينطق الغباء… ويصفّق له الجميع ! … بقلم /د . احمد سعودى
مقرئٌ بالقراءاتِ العشر، حاصل على الماجستير والدكتوراه في علوم القرآن والقراءات

حين ينطق الغباء… ويصفّق له الجميع !
تخيّلوا هذا المشهد…
قاعة كُبرى… ضوء الكاميرات يملأ المكان… الصفوف الأولى مكتظة،
يظهر على المنصّة رجل يتقدم بخطوات واثقة… يضبط هندامه…
يلتقط الميكروفون بثقة من لم يقل يومًا شيئًا ذا قيمة،
ويُعلن في صوته الرخيم الخالي من المعنى:
“نحن في الغباء نؤمن أن الجهل حق مشروع،
وأن التفكير الزائد مضر بالصحة العامة…
لذا نهيب بالمواطنين التوقف فورًا عن استخدام عقولهم حتى إشعار آخر”.
قد تبتسم من هذا التصريح، لكنه في الحقيقة ليس مشهدًا خياليًا.
إنه واقع يتكرر في تفاصيل حياتنا…
كلما تسلّل أصحاب العقول السطحية إلى الميكروفونات،
واعتلى الرويبضة منابر “الرأي العام”،
وصار الجهل يُباع في قوالب براقة تحمل أسماء براقة… “موضة فكرية”، “جرأة رأي”، “حرية تعبير”.
أما العقول الواعية… فصارت تهمس بينها:
﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾؟
﴿ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴾؟
لكن من يصغي في زمن الضوضاء؟
حدّثني جدي ذات مرة وقال:
“يا بني… الجاهل حين يتكلم كثيرًا يظن أنه انتصر،
ولكن العاقل حين يصمت يعلم أنه نجا”.
ثم أنشد لي:
وكم من فتىً ألقاه جهلهُ في المهالكِ
ولو صمت الجاهلُ ما ضلّ سامعهُ.
أليس هذا هو واقعنا؟
ألسنا نرى من يظن أن الصوت العالي حجة؟
ومن يظن أن الإسفاف شجاعة؟
ومن يتقن فنّ إضاعة المعنى في زحام الكلمات؟
رسول الله ﷺ وصف لنا هذا المشهد منذ 14 قرنًا، حين قال:
“سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة”.
قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟
قال: “الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”.
ليست المشكلة أن يتكلم التافه…
المصيبة أن يجد من يسمعه، ومن يصفق له،
أن يعتلي الجهل منصة الفكر، ويتحول إلى “ناطق رسمي” للغوغاء.
قال أحد الحكماء:
إذا صار الجاهل معلّمًا… صار العلم دمية في يد طفل.
وإذا صار الفكر سلعة رخيصة… صار الكذب عنوانًا للجرأة، وصار “الصمت” تهمة.
أتعجب كثيرًا ممن يخاف أن يُوصف بالجهل وهو صامت،
ولا يخاف أن يُفضح جهله وهو يتكلم!
يا سادة… الله تعالى خاطب العقول لا الأصوات،
قال عز وجل:
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]
القلب الذي يعقل… والأذن التي تسمع… والعقل الذي يفقه…
هذه هي أدوات الوصول إلى الحق.
أما من أغلق قلبه، وأعجبته نبرة صوته،
فهو كما قال الله تعالى:
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171]
الغباء الحقيقي ليس في ضعف الفهم،
بل في الجرأة على الكلام دون علم.
ليس عيبًا أن تجهل… لكن العيب أن تصرّ على الجهل،
وأن تتعامل مع التفكير كأنه “مرض” يجب التخلّص منه!
رسالتي لكم:
ارفعوا منابر الفكر في بيوتكم،
ربّوا أبناءكم على أن يكونوا “سفراء للعقل”،
علموهم أن “التفكير” فريضة لا خيار،
وأن السخرية من الجهل لا تكون بالضحك فقط،
بل بتقديم البديل الراقي العاقل.
اضحكوا بذكاء…
واسخروا بفكر…
لكن لا تستهينوا بالخطر…
فالغباء حين يجد لنفسه ناطقًا رسميًا…
سيجد جمهورًا أيضًا…
إن لم نحصّن عقولنا وعقول أبنائنا.