مقالات و رأيمقالات وراي

ستة أبواب للفساد… فكيف نغلقها ؟ بقلم /د . احمد سعودى

مقرئٌ بالقراءاتِ العشر، حاصل على الماجستير والدكتوراه في علوم القرآن والقراءات

ستة أبواب للفساد… فكيف نغلقها ؟

قال العارف بالله ذو النون المصري رحمه الله:

> “دخلَ الفسادُ على الخلقِ في ستةِ أشياءٍ:
١- ضعفُ النيةِ بعملِ الآخرة.
٢- صارتْ أبدانُهم مهيئةً لشهواتِهم.
٣- غلبهم طولُ الأملِ مع قصرِ الأجلِ.
٤- آثروا رضاءَ المخلوقين على رضاءِ اللهِ.
٥- اتبعوا أهواءَهم ونبذوا سنةَ نبيِّهم ﷺ.
٦- جعلوا زلّاتِ السلفِ حجةً لأنفسِهم، ودفنوا أكثرَ مناقبِهم.”
[الاعتصام للشاطبي]

هذه الكلمات ليست حِكمًا تُروى للتسلية، ولا مواعظ تُقرأ ثم تُترك، بل هي خريطة لأسباب انحراف القلوب وفساد المجتمعات. ومن تدبّرها علم أن صلاح الأمة يبدأ من صلاح القلوب، وأن الهلاك يبدأ من الداخل قبل أن يأتي من الخارج.

١- ضعف النية بعمل الآخرة

النية هي روح العمل، فإذا فسدت النية، صار العمل جسدًا بلا روح.
قال الله تعالى:
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥]
وقال النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [البخاري ومسلم].

إن ضعف النية للآخرة معناه أن القلب لم يعد يرى الآخرة أمامه، وإنما أصبح همّه الدنيا وحدها.
قال الحسن البصري: “رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر”.

ومصيبتنا اليوم أن كثيرًا من أعمالنا صارت لمظاهر الناس لا لمراقبة الله، فترى المرء يحرص على إظهار عبادته في العلن، لكنه في الخفاء مقصر، وكأن قلوبنا تناست قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].

٢- تسخير الأبدان للشهوات

قال الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ [آل عمران: ١٤]، وهذه الزينة ابتلاء، فمن ضبط نفسه بالشريعة سلم، ومن أطلقها لهواها هلك.

وقال النبي: «حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات» [البخاري ومسلم].
فطريق الجنة مليء بما تكرهه النفوس من مجاهدة وصبر، وطريق النار مليء بما تحبه النفوس من شهوات محرّمة.

وانظر إلى حال كثير من الناس اليوم، كيف صار جسده أداة لإشباع بطنه وفرجه، غافلًا عن أن الجسد وديعة، وأنه مسؤول عنه يوم القيامة، قال ﷺ: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع… وعن جسده فيما أبلاه» [الترمذي].

٣- طول الأمل مع قصر الأجل

هذا الباب من أخطر الأبواب، لأن من طال أمله سوّف في التوبة وأجّل العمل الصالح، حتى يفجأه الموت على غفلة.
قال تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: ٣].

وقال النبي لابن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: “إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء” [البخاري].

فالعاقل من قَصُر أمله وعمل ليومه كأنه آخر أيامه، أما المغرور فهو من يظن أن بينه وبين الموت مسافة طويلة، مع أن الموت يأتي بغتة.

٤- إيثار رضا المخلوقين على رضا الله

هذا الباب وحده كافٍ لإهلاك أمة بأكملها، إذا صار معيار الحق والباطل هو رضا الناس وغضبهم، لا رضا الله وسخطه.
قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ٦٢].

وقال النبي ﷺ: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» [الترمذي].

والثبات على الحق قد يجلب لك سخط الناس، لكنه يجلب لك معية الله، وأيّ فضل أعظم من ذلك؟

٥- اتباع الهوى ونبذ السنة

قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [القصص: ٥٠].
وقال ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» [أبو داود والترمذي].

ومن ترك السنة واتبع الهوى، صار يعبد شهوته ورأيه، ولو ادّعى العبادة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: “الهلاك في اثنتين: القنوط، وإعجاب المرء بنفسه”، وكلاهما من ثمار اتباع الهوى.

٦- جعل زلات السلف حجة ودفن محاسنهم

السلف بشر، يخطئون ويصيبون، لكنهم إذا أخطأوا رجعوا، وإذا زلّوا تابوا، وكانوا أشد الناس إنكارًا على أنفسهم.
أما من يأتي اليوم فيتتبع زلاتهم ليبرّر تقصيره، فهذا لم يقتد بهم، بل خالفهم.

قال الإمام مالك: “كلٌّ يؤخذ من قوله ويُترك إلا صاحب هذا القبر” وأشار إلى قبر النبي ﷺ.
وقال ابن القيم: “من تتبّع الرخص تزندق”.

هذه الأبواب الستة هي أسباب خراب القلوب قبل خراب العمران، وهي التي إن تركها الناس انغلق عنهم باب الفساد، وفتح الله لهم أبواب الهداية.

فلنُجدد نياتنا، ونكبح شهواتنا، ونقصّر آمالنا، ونطلب رضا الله قبل رضا المخلوق، ونتبع السنة ونترك الهوى، ونذكر الصالحين بمحاسنهم لا بزلاتهم.

قال تعالى:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: ٩-١٠].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى