“100مليون يتكلمون في كل شيء !!!” بقلم د . أحمد سعودي
دكتوراه في علوم القرآن الكريم والقراءات رئيس جمعية البشريات للخدمات والمساعدات ومدير دار بركة النور لرعاية المسنين

الحمد لله الذي أمر بالعلم قبل القول والعمل، ونهى عن القول على الله بغير علم، فقال في كتابه العزيز:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ… وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي قال: “من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار” [رواه الترمذي وأبو داود].
أما بعد،
فإن من أعظم الفتن التي أصابت الأمة في هذا الزمان، وفتحت باب شرٍ لا يُغلق، هو الكلام في كل شيء بغير علم؛ فتجد من يتكلم في السياسة، والدين، والاقتصاد، والطب، والفتوى، والتفسير،
بل حتى في القضاء والحروب والملاحم، دون أن يمتلك أهلية علمية، ولا دراية بأصول المسائل، ولا أدبًا مع أهل التخصص.
قال الله تعالى ناهياً:
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36].
قال الإمام الطبري رحمه الله: “لا تتبع ما لا تعلمه، ولا تقول ما لا تعلمه، فإن الله سائلك عن ذلك كله.”
بل إن القول على الله بغير علم أعظم من الشرك في مرتبة التحريم كما رتبها الله في قوله:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ… الشِّرْكَ بِاللَّهِ… وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
الواقع المؤلم: كل الناس يتكلمون في كل شيء !
في واقعنا، قد تجد رجلًا يتحدث في السياسة وكأنه خبير مخضرم، ثم يتحول في لحظة إلى محلل رياضي يسب اللاعبين والحكام، ثم يناقش أحكام المواريث والزواج والطلاق والدية وكأنما تربى في أروقة المجامع الفقهية!
وهذا كله دون علم ولا بصيرة، بل غالبًا ما يكون الجهل مصحوبًا بالثقة الكاذبة، فيُضل ويُضلّ غيره.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهّالًا، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا” [رواه البخاري ومسلم].
من روائع السلف: فقه الورع والسكوت
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يتكلم في المسائل حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يتثبت. وحين شاع خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، لم يصدّق حتى أتى النبي واستوثق. فقال له رسول الله:
“لا، ولكنني اعتزلتهن شهرًا”.
فنزلت الآية الكريمة:
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلْأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُوا۟ بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُو۟لِى ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
وهذا أصل في التثبت وترك الإشاعة والرجوع إلى أهل التخصص.
الرويبضة يتكلم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة”.
قيل: ومن الرويبضة؟
قال: “الرجل التافه يتكلم في أمر العامة” [رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني].
وهذا وصف دقيق لحال كثير من المتحدثين على المنصات ومواقع التواصل، ممن لا حظّ لهم من علم، بل يفتون ويجرّحون، ويظنون أنهم يحسنون صنعًا.
فتوى أودت بالحياة
وفي صحيح السنة أن رجلاً كان في سفر، فأُصيب في رأسه وشُج، ثم احتلم، فسأل هل يغتسل؟
فقال بعض الجهال: “نعم، اغتسل”، فاغتسل فمات.
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
“قتلوه، قتلهم الله! ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال” [رواه أبو داود].
فانظر إلى خطر الكلام في الدين بلا علم، فقد يُفضي إلى الموت والهلاك.
الخاتمة: فليتكلم من يعلم، وليسكت من لا يعلم
قال الإمام ابن عبدالبر:
“لو سكت من لا يعلم، لقلّ الخلاف.”
وقال الإمام الشافعي:
إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط.”
فالعلماء ورثة الأنبياء، وأما من تكلّم في غير فنه، أتى بالعجائب.
فلنلزم حدودنا، ولنتعلم قبل أن نحكم، ولنحذر من الكذب على الله، فإنها مسؤولية عظيمة.
قال الله تعالى:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].