الذباب الإلكتروني.. سُمٌّ في جسد الأمة وحكمه في ميزان الشريعة /بقلم: الشيخ الدكتور أحمد بن ممدوح سعودي
دكتوراه في علوم القرآن والقراءات ورئيس جمعية البشريات للخدمات والمساعدات

في زمنٍ أصبحت فيه الكلمة أسرع من الرصاص، وصار للمنشور الإلكتروني وقعٌ يفوق أحيانًا وقع السلاح، ظهر خطرٌ داهم يتسلل في هدوء ليهدم المجتمعات، ويفسد العقول، ويُشعل الفتن، ويُحرّف الحقائق، ويشوّه الأبرياء.
ذلك هو ما يُعرف بـ*”الذباب الإلكتروني”*، وهو جيش من الحسابات الوهمية أو المدفوعة، يُستخدم لبث الشائعات، وتشويه السمعة، ونشر الفتن، وتوجيه الرأي العام زورًا وبهتانًا.
أولًا: ما هو الذباب الإلكتروني؟
هو مجموعات مُمنهجة تُدار غالبًا من أجهزة مخابرات أو جهات ذات مصالح خفية أو حتى أفراد مأجورين، هدفها تضليل الرأي العام، وتشويه الخصوم، ونشر الأكاذيب، وإثارة الفوضى، عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي. لا تُراعي شرفًا، ولا دينًا، ولا أخلاقًا، ولا مصلحة وطن.
ثانيًا: الحكم الشرعي في الذباب الإلكتروني
1. تحريم الكذب والافتراء
قال تعالى:
> ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 105]
وقال رسول الله ﷺ:
“وإيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار” [رواه البخاري ومسلم].
ما يقوم به الذباب الإلكتروني من افتراء وكذب يدخل في هذا الباب بلا شك.
2. تحريم الغِيبة والنميمة
قال تعالى:
> ﴿ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ﴾ [الحجرات: 12]
وقال رسول الله ﷺ:
“أتدرون ما الغِيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره” [رواه مسلم].
وما ينشره هذا الذباب من تشويه وفضائح يدخل في أعظم صور الغِيبة وأخطرها.
3. تحريم نشر الفتنة والإرجاف
قال تعالى:
> ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ﴾ [البروج: 10]
وقال سبحانه:
﴿ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِم ﴾ [الأحزاب: 60].
والإرجاف اليوم لا يكون بالسيف، بل بالتغريدة، والمنشور، والفيديو القصير، والصورة الموجّهة، والتعليق الساخر.
ثالثًا: أثر الذباب الإلكتروني على واقع المسلمين
لقد أصبح هذا “الذباب” أحد أدوات إسقاط الرموز الصادقة، وتغييب الوعي، وتمييع الحق، وتقديم الباطل في ثوب جميل. رأينا كيف تُشوّه سمعة العلماء، وتُتهم الدعاة، وتُحرّف مواقف الشرفاء، فيتردد الناس بين الصدق والكذب، وبين الحق والباطل، فلا يدرون بأي سبيل يهتدون.
وقد قال النبي ﷺ:
> “كفى بالمرء كذبًا أن يُحدّث بكل ما سمع” [رواه مسلم].
والذباب الإلكتروني اليوم يُنشر بلا تحرٍّ، ويُكرّر بلا تثبّت، ويُعاقَب به أبرياء.
رابعًا: واجب المسلم تجاه هذه الظاهرة
1. التحقق من الخبر
قال تعالى:
> ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6].
2. عدم المشاركة في نشر الأكاذيب
قال رسول الله ﷺ:
> “من قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال، وليس بخارج” [رواه أبو داود].
3. نصرة المظلومين وعدم الركون إلى الظالمين
قال ﷺ:
> “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، قالوا: ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: تَمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه” [رواه البخاري].
4. الدعاء بالهداية وردّ كيد المفسدين، فالقلوب بيد الله.
ختامًا
إن الذباب الإلكتروني ليس مجرّد أداة افتراضية، بل هو فِتنة متحركة، وسلاح خطير قد يهدم الأُسر، ويفرق بين الأحبّة، ويُضلّ العقول، ويُغيّر مصائر الأمم. ولا دواء له إلا بالصدق، والتحرّي، والوعي، والرجوع إلى ميزان الشرع.
نسأل الله أن يحفظ ألسنتنا وأقلامنا من الزلل، وأن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وأن يُرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.