مقالات و رأي

شعْرَةُ مُعَاوِيَة: خيط الحكمة الرفيع بين الحزم واللين”بقلم /الدكتور أحمد بن ممدوح سعودي

مقرئ القراءات العشر، ومدير دار بركة النور لرعاية المسنين.

في قلب السياسة الرشيدة، وتدبير شؤون الناس، تتجلّى الحاجة إلى حنكة متوازنة تجمع بين القوة والتسامح، وبين الحزم والرفق. ومن أبلغ ما عبّر عن هذا المعنى قول أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، حين كتب إلى عامله زياد بن أبيه:

> “ليكن بيني وبينك في سياسة الرعية شعرة ممدودة، إن شددت طرفها فارخها، وإن أرخيت طرفها فاشددها، فإنّا إن شددنا جميعًا انقطعت.”

عبارة موجزة، لكنها تحمل من الفقه السياسي والبصيرة الاجتماعية ما يفوق عشرات الخطب والدراسات. وقد خُلّد هذا المعنى في الموروث الشعبي العربي بمقولة: “شعرة معاوية”، حتى صار يُضرب بها المثل في حسن المداراة، وكمال الحكمة، وبُعد النظر في التعامل مع الناس.

المعنى والمغزى
“شعرة معاوية” ليست مجرد تعبير مجازي، بل هي قاعدة سلوكية تقوم على التوازن النفسي والسياسي. هي خيط رفيع من العلاقات، لا ينبغي أن يُقطع، بل يجب أن يُدار بحكمة فائقة. فلو تشدد الطرفان في آنٍ واحد انقطعت الشعرة، ولو تراخيا في الوقت ذاته انهارت الهيبة والنظام.

وقد قال الإمام ابن حزم الأندلسي:

> “من أراد أن يدوم سلطانه، فليكن كالريح: إذا اشتدّت كسرت، وإذا تلطّفت نفذت.”
وهذا عين ما فعله معاوية، فكان إذا رأى من الناس طاعة شدّد، وإذا رأى نفورًا ترفّق، فحُفظ له الملك واستتب له الأمن.

من فقه السياسة النبوية

إن نظرة إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن سياسة “شعرة معاوية” ليست بدعًا، بل هي فرع عن الأصل النبوي الكريم. فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

> “ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه.”

وكان عليه الصلاة والسلام يداري الناس ويصبر على أذاهم، ويعامل كبراء القوم بحنكة تراعي نفوسهم، كما فعل مع عبد الله بن أبي سلول رأس النفاق، ومع أبي سفيان قبل إسلامه، ومع أهل مكة يوم الفتح.
“شعرة معاوية” في ميزان العقل

هذه السياسة الحكيمة لا تعني التنازل عن المبادئ، ولا السكوت عن الظلم، بل هي فنُّ الإصلاح بالتدرج، وحفظ العلاقات ولو من خيط رفيع، يُمكن أن يُبنى عليه لاحقًا كثير من الخير.

وقد شبّه الحكماء هذه السياسة بالخيط الذي يربط أجزاء السفينة: لا يُشد حتى يتقطع، ولا يُرخى حتى تتفكك. وكما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

> “لست بالخبِّ، ولا الخبُّ يخدعني.”
أي أنه ليس خبيثًا في طبعه، لكنه لا يُخدع بسهولة، وهي نفس النظرة التي طبقها معاوية في تعامله مع الداخل والخارج.

من شَعْرة معاوية إلى واقع اليوم

ما أحوجنا اليوم إلى “شعرة معاوية” في مؤسساتنا، وفي بيوتنا، ومع جيراننا وأصدقائنا وأعدائنا!
في زمن تتقاطع فيه الآراء وتشتد فيه العواطف، لم تعد القوة وحدها سبيلاً للنجاح، بل الحنكة وحُسن التقدير، والرغبة في الحفاظ على خيط الود مهما رَقَّ، لأنه قد يكون الطريق الوحيد للرجوع إلى الصواب.

ولذلك، فإن من السياسة الراشدة أن يُحافظ المسؤول على قنوات التواصل مع الناس، فلا يقطعهم بالبُعد، ولا يُفسدهم بالإفراط في القرب، بل يُوازن بينهما كما فعل معاوية رضي الله عنه.
خلاصة القول

“شعرة معاوية” ليست شعارًا فارغًا، بل هي جوهر القيادة، ومفتاح العلاقات الناجحة، ومثال فذّ على أن أعظم الرجال هم أولئك الذين يحسنون إدارة خيوط التواصل، ولو كانت دقيقة كشعرة.

وقد أدرك العرب هذا المعنى فأثنوا على دهاة القوم، ومنهم معاوية رضي الله عنه، فقال قائلهم:

> ما فات قومٌ وعندهم مثل معاوية،
ولا نجوا إذا كان عليهم مثل زياد.

فلْنكن جميعًا ممن يُتقنون فن التوازن، ويَعرفون متى يُشدّ، ومتى يُرخى، حفاظًا على الخير العام، وصونًا

للمحبة، وإرساءً لحكمةٍ علّمتها لنا شعرة… لكن ليست ككل الشعور، إنها “شعرة معاوية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى