مقالات و رأيمقالات وراي

الإمام البخاري بين ابتلاء العلماء وخاتمة العظماء ../ بقلم الشيخ الدكتور أحمد سعودي

مقرئٌ بالقراءاتِ العشر، حاصل على الماجستير والدكتوراه في علوم القرآن والقراءات

الإمام البخاري بين ابتلاء العلماء وخاتمة العظماء

الحمد لله الذي رفع مكانة العلماء، وجعلهم ورثة الأنبياء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يُعدّ الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (194–256هـ) من أعظم أئمة الإسلام، وصاحب الجامع الصحيح الذي أجمعت الأمة على صحته ومكانته. ورغم علو قدره، فقد لاقى في أواخر حياته ابتلاءً شديدًا انتهى بوفاته في قرية خرتنك، بعيدًا عن الحواضر العلمية التي ملأت الدنيا بعلمه.

تهدف هذه الدراسة إلى عرض تفاصيل وفاته كما نقلها المؤرخون، مع العزو لكل رواية والتعليق عليها، وصولًا إلى استخلاص الدروس والعبر.

أولًا: لمحة عن مكانته العلمية

قال الحافظ ابن حجر: «وأما البخاري فإمام الدنيا في معرفة الحديث» (ابن حجر، هدي الساري، ص 646).
وقال الذهبي: «أُجمع على إمامته وجلالته وحفظه» (الذهبي، سير أعلام النبلاء 12/391).

ثانيًا: أسباب الاضطهاد في أواخر حياته

1. رفضه إذلال العلم عند أبواب السلاطين
طلب والي بخارى منه أن يدرّس أبناءه في قصره، فأبى وقال:

> «لا أذلّ العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس»
(الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 2/32؛ إسناده حسن).

2. الحسد من بعض معاصريه
ذكر ابن كثير: «ووقع بينه وبين جماعة من علماء نيسابور منافرة وحسد، حتى أخرجوه منها»
(ابن كثير، البداية والنهاية 11/25).

ثالثًا: خروجه من نيسابور

قال الذهبي: «حسده جماعة من علماء نيسابور فأخرجوه منها» (تذكرة الحفاظ 2/555).
وهذا العزو يثبت أن إخراجه لم يكن لأسباب سياسية فحسب، بل لأسباب علمية ناتجة عن المنافسة والغيرة.

رابعًا: دخوله بخارى وخروجه منها

يذكر ابن حجر أن أهل بخارى استقبلوه استقبالًا عظيمًا:
«لما قدم بخارى تلقاه الناس في جماعة عظيمة، حتى نثروا عليه الدراهم والسكر» (هدي الساري ص 646).

ثم غضب الوالي منه لرفضه تعليم أولاده في القصر، فأمر بإخراجه من المدينة (المصدر السابق).

خامسًا: نزوله بخرتنك

قال الذهبي: «فنزل بخرتنك من قرى سمرقند عند أقربائه» (سير أعلام النبلاء 12/471).
وقد روى ابن عدي أنه دعا في خرتنك قائلاً:

> «اللهم قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك»
(ابن عدي، الكامل 7/2362).
وهذه الرواية لا تخلو من ضعف، لكن معناها صحيح ويشهد له ما وقع بعد ذلك من وفاته سريعًا.

سادسًا: وفاته رحمه الله

روى أبو أحمد الحاكم في تاريخ نيسابور (ص 217): أن البخاري خرج ليلة عيد الفطر مع إبراهيم بن معقل، فلما سار خطوات قليلة اعتراه التعب، فجلس ليستريح، ففاضت روحه إلى الله تعالى.

وذكر الذهبي: «توفي ليلة الفطر سنة ست وخمسين ومائتين، ودفن بخرتنك» (العبر في خبر من غبر 2/84).

إذن، اتفقت المصادر على:

1. وفاته في خرتنك.

2. أنها كانت ليلة عيد الفطر سنة 256هـ.

3. دفنه في القرية، حيث ما زال قبره يُزار.

سابعًا: عمره عند الوفاة

وُلد البخاري سنة 194هـ، وتوفي سنة 256هـ، فعمره حين الوفاة اثنتان وستون سنة (الذهبي، تاريخ الإسلام 6/449).

الخاتمة والدروس

1. ثباته على المبدأ: رفض أن يبيع العلم للسلاطين، مع أن ذلك كان سيحقق له راحة دنيوية.

2. سنة الابتلاء: قال ﷺ: «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» (رواه الترمذي 2398 وصححه الألباني).

3. بقاء الأثر: أُخرج من المدن وطُرد من القصور، لكن بقي علمه ميراثًا خالدًا، يدرسه المسلمون في كل عصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى