“فلنراجع عهودنا مع الله…/ بقلم الشيخ الدكتور أحمد سعودي
مقرئٌ بالقراءاتِ العشر، حاصل على الماجستير والدكتوراه في علوم القرآن والقراءات

“فلنراجع عهودنا مع الله… وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم”
قال الله تعالى:
> {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40].
آيةٌ جمعت بين الأمر بالوفاء والوعد بالجزاء، وبين هيبة العبودية وجمال الرحمة الإلهية، فهي دعوةٌ ربانيةٌ إلى الصدق والثبات على ما بين العبد وربه من العهد والميثاق.
إن الله جل جلاله ـ مع غناه عن خلقه ـ شاء برحمته أن يُقيم العلاقة بينه وبين عباده على عهدٍ ووفاءٍ ووعدٍ وجزاء، فكلما ازداد العبد صدقًا في الوفاء بعهد الله، زاده الله فضلاً وكرمًا ورضوانًا.
قال تعالى:
> {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} [التوبة: 111].
وقال سبحانه:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9].
والوفاء في اللغة هو إتمام الشيء وإكماله على وجهه الأتم، وهو أعلى درجات الصدق، كما قال الإمام الراغب الأصفهاني: الوفاء هو الثبات على العهد من غير نكث ولا نقصان.
العهد بين الله وعباده
قال تعالى:
> {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ…} [يس: 60].
فالعهد بين العبد وربه هو الإيمان الصادق والعمل الصالح، والابتعاد عن معصيته، والإخلاص له في القول والعمل، كما قال تعالى:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
قال الحسن البصري رحمه الله:
> “عهد الله إلى عباده هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، فمن وفَّى بعهده، وفى الله له بما وعده من جنات النعيم.”
ومن رحمته تعالى أنه ألزم نفسه بالوفاء لعباده، فقال سبحانه:
> {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]،
وقال أيضًا:
{إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي} (حديث قدسي – متفق عليه).
وجوه الرحمة الإلهية في هذه الآية
1️⃣ أنه سبحانه وضع على نفسه عهودًا لعباده، وهو الغني عنهم، لا يحتاج إلى طاعتهم، ومع ذلك وعدهم جزاءً على طاعتهم تفضُّلًا ورحمةً، فقال جل شأنه:
> {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7]،
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
فهو سبحانه يبادلهم المقابلة الكريمة، ليشعرهم بالقرب والرحمة.
2️⃣ أنه يخاطبهم بلطفٍ وتحبيبٍ، فيقول:
> {أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}،
وكأنه سبحانه يقول لهم: “كونوا لي كما أحب، أكن لكم كما تحبون.”
وهذا من أبلغ ما يكون في الترغيب والتودد الرباني.
3️⃣ أنه يعدهم بجزاءٍ أعظم من العمل، فلا يُجازي الحسنة بمثلها فقط، بل بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال تعالى:
> {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
4️⃣ أنه يُربي عباده على الصدق والثبات، فيقول النبي ﷺ:
> «أحبُّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلَّ» (رواه مسلم).
فمن وفى بالعهد استحق دوام الرعاية والعناية من مولاه.
نماذج من وفاء الله لعباده
وفى الله لإبراهيم عليه السلام حين صدق في العهد فقال تعالى:
> {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37].
ووفى لنبيّه محمد ﷺ وعده بالنصر والتمكين فقال:
> {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
ووفى لعباده الصالحين بالجنة والرضوان فقال:
> {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا… وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122].
فلنراجع عهودنا مع الله
فلنراجع عهودَنا مع الله، ولننظر في مدى صدقنا معه، فقد أخذ علينا ميثاق الإيمان، فقال جل شأنه:
> {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ…} [يس: 60–61].
فلنوفِ بعهده طاعةً وإخلاصًا ومحبةً، ولنكن ممن قال الله فيهم:
> {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].
ولْنثق بوعده الكريم، فهو سبحانه لا يُخلف الميعاد، ومن أوفى من الله عهدًا ووعدًا؟
> {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122].
ومن جدد عهده مع ربه، وأخلص نيته، وثبت على طريق الحق، وجد في رحمة الله ووفائه ما يُنسيه تعب الطريق، ويُورثه سعادة الدارين، مصداقًا لقوله ﷺ:
> «من أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءَه» (رواه البخاري).