لا تتنازل عن كرامتك …/ بقلم الشيخ الدكتور أحمد سعودي
مقرئٌ بالقراءاتِ العشر، حاصل على الماجستير والدكتوراه في علوم القرآن والقراءات
🌿 لا تتنازل عن كرامتك 🌿
في زمن الاستعمار البريطاني للهند، صفع ضابطٌ بريطاني رجلاً هنديًّا على وجهه أمام الناس،
فما كان من الهندي إلا أن رفع يده وردَّ الصفعة بلكمةٍ أسقطت الضابط أرضًا!
غضب الضابط أشد الغضب، وذهب مسرعًا إلى قائده الجنرال يشكو ما جرى قائلًا:
“لقد اعتدى هذا الهندي على جيش صاحب الجلالة، فلتأمر بإعدامه!”
ابتسم الجنرال وقال له بهدوءٍ عجيب:
“خُذ خمسين ألف روبية، وادفعها لذلك الهندي عربون اعتذار عمّا بدر منك!”
كانت تلك المبالغ في ذلك الزمن ثروة عظيمة، فقبلها الهندي،
وجعلها رأس مالٍ لتجارته التي طالما حلم بها.
ومع الأيام اتسعت تجارته، وكثر ماله، وصار له شأن ومكانة.
ومضت سنوات، فقال الجنرال للضابط:
“الآن، وقد أصبح ثريًّا، اذهب إليه في داره واصفعه مرةً أخرى أمام خدمه وحرسه!”
ذهب الضابط ونفذ الأمر، فابتسم الهندي ولم يحرك ساكنًا.
عاد الضابط متعجبًا وأخبر الجنرال بما حدث، فقال له الجنرال كلمته الخالدة:
> “في المرة الأولى لم يكن يملك إلا كرامته فدافع عنها،
أمّا اليوم فقد باع كرامته بثمنٍ بخسٍ من الدنيا،
وصار يدافع عن مصالحه لا عن شرفه!”
وهكذا هي الحياة، تراود الإنسان في كل حين عن كرامته،
تختبر مدى صلابته، وتعرض عليه العروض المغرية ليبيع أعز ما يملك.
فمن الناس من يصمد كالجبال، ومنهم من ينهار عند أول صفقةٍ خاسرةٍ مع الضمير.
الكرامة ليست شعارًا يُرفع، بل هي نَفَسٌ يسكن القلب،
تجري في الدم كما تجري الحياة، من فقدها مات وهو حيّ.
نادرًا ما يكون امتحان الكرامة واضحًا صارخًا كحال المحتلّ مع صاحب الدار،
لكننا نُختبر في تفاصيلنا اليومية الصغيرة:
في تعاملنا، في علاقاتنا، في رزقنا، وفي صمتنا أحيانًا!
🔹 باسم الحب، ترى بعضهم يقبل الذل ويُهين نفسه، ثم يقول:
“لا كرامة بين المحبين!”
نسي أن الحب الحقيقي لا يطلب منّا أن نُهين أنفسنا،
فمن أحبّك حقًّا حافظ على كرامتك كما يحافظ على قلبه،
ولم يضعك يومًا بين خيارين: قلبك أو كرامتك.
🔹 باسم الرزق، يريق أحدهم ماء وجهه،
ويُبرر لنفسه قائلًا: “لقمة العيش صعبة!”
فيا للعجب! ألهذا الحد صار الخبز أثمن من الكرامة؟
تبًّا للخبز المعجون بالذل، للرغيف الذي يحولنا إلى عبيدٍ للناس،
ونحن نعلم أن الرزق بيد الله لا بيد الخلق.
🔹 باسم الترقّي في الوظيفة، ترى من يتجسّس على زملائه،
ويتقرّب إلى رؤسائه بالنميمة، حتى يُرضيهم بسوء خلقه!
🔹 باسم معرفة علية القوم، كثر المصفقون والمطبلون،
يمسحون الكراسي لا حبًّا في الوطن، بل طمعًا في مصلحةٍ أو جاه.
🔹 باسم الدين، تُباع العمائم وتُشترى اللحى بدراهم معدودة،
يتعلمون كلام الله ثم يمشون به في طريق إبليس،
يُفتون بما يُرضي السلطان لا بما يُرضي الرحمن!
نعم، في بعض المواقف يكون التجاهل فضيلة،
ويكون التغاضي خُلقًا راقيًا يُثاب عليه المرء،
إن كان الهدف حفظ المودة وابتغاء وجه الله.
أما إن كان التغاضي خوفًا من الناس أو طمعًا في رضاهم،
فقد سقطت الكرامة عند أقدامهم، وضاعت المروءة بين أياديهم.
تذكّر دائمًا أن كرامتك أثمن من حبيبك، وأغلى من رزقك، وأعز من نفسك،
فمن ضيّع كرامته ضيّع إنسانيته، ومن عاش بلا كرامة مات وإن كان بين الأحياء.
فالكرامة ليست ترفًا، بل هي حياةٌ أخرى يسكنها من صدق مع نفسه،
ومن رضي بالذل لحظة، ذاق مرارة الانكسار عمرًا كاملًا.
فاحفظ كرامتك، ولا تبعها مهما كانت الإغراءات،
فهي رأس مالك الذي إن خسرته لن يعوضك عنه شيء في الدنيا.
